تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا
السراج الوهاج للمعتمر والحاج
47889 مشاهدة
يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة)

فإذا أصبح الحجيج في اليوم التاسع ، وطلعت الشمس ، توجهوا إلى عرفة فالوقوف بها هو الركن الأعظم للحج ، الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الحج عرفة .
وعرفة مكان فسيح واسع ليس فيه بنا، وهو متسع من جهة الشمال، ومن جهة الجنوب، أما من جهة الشرق فتحده تلك الجبال التي تعرف (بجبل الرحمة) وما يتصل به من الجبال، وأما من جهة الغرب فيحده وادي عُرنة وما وراءه.
وذهب بعض العلماء إلى أن عُرنة داخلة في عرفة وعلى هذا فتكون نهايته ما وراء الوادي إلى منتهى عُرنة ويدخل فيه على الصحيح نمرة كما في حديث جابر الطويل وغيره كما اختاره الزركشي في شرح مختصر الخرقي (2373) وذكرنا في التعليق عليه بعض الأدلة من السنة.
ويسن للحجاج النزول بنمرة في بطن الوادي إلى الزوال إن تيسَّر ذلك، لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا زالت الشمس سن للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة تناسب الحال، يبين فيها ما شرع للحاج في هذا اليوم وبعده، ويأمرهم فيها بتقوى الله وتوحيده والإخلاص له في كل الأعمال، ويحذرهم من محارمه.. و غير ذلك.
بعد ذلك يصلي الحجاج الظهر والعصر قصرا وجمعا في وقت الأولى بأذان واحد وإقامتين لفعله -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث جابر .

ثم يقف الحجاج بعرفة وعرفة كلها موقف، يقفون خاشعين خاضعين، متضرعين، مستكينين لربهم، مظهرين الفقر والفاقة وشدة الحاجة إليه، مقيمين لحرماته، يعلمون أنهم في موقف عظيم يجمعهم كلهم، فالذين يتوافدون إلى البيت يجتمعون كلهم في ذلك المكان في اليوم التاسع في تلك الصحراء خاضعين لربهم، رافعين إليه أكف الضراعة، داعين له بكرة وعشية، طالبين منه حاجتهم الحاضرة والمستقبلية، راجين رحمته، فيباهي بهم ملائكته كما ورد ذلك في بعض الأحاديث: إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته ، فيقول: انظروا إلى هؤلاء، أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق .
يقف الحجاج في ذلك اليوم ، وهم على هذه الهيئة، بعد أن أدوا صلاة الظهر والعصر، جمعا وقصرا، في وقت الظهر، وذلك ليطول زمن الوقوف ، ثم يقف الحجاج إن تيسَّر لهم الوقوف عند جبل الرحمة فذلك أفضل ، فإن لم يتيسر لهم، وقفوا في أي مكان من عرفة في داخل خيامهم أو غيرها، ولكن الأفضل أن يبرزوا ضاحين، لأنه روي عن ابن عباس أنه رأى رجلا قد استظل بقبة ونحوها فقال: أضح لمن أحرمت له ، يعني: أبرز فلا تستظل ولا تستكن في خيمة ، فالأفضل أن يكونوا بارزين ظاهرين من بعد الظهر، إلى غروب الشمس، منشغلين كل ذلك الوقت بالدعاء، والذكر، والتلبية، والقراءة، والأدعية الجامعة، كل ذلك مع حضور القلب وتواطئه مع اللسان، والبكاء، وحزن القلب ، فإن ذلك من أسباب قبول العمل ، ومن أسباب المغفرة.
بخلاف من كان في هذا الموقف قاسيا قلبه ، لا يخشع ولا يخضع ولا يدعو، ولا يتضرع ، إنما يترقب وينتظر انتهاء الوقت حتى يسارع ويسابق إلى الانصراف ! فإن هذا قد فاته خير كثير، وهو مباهاة الله للملائكة بالحجاج، في حالة كونهم خاشعين شعثا غبرا، يرجون الرحمة، ويخشون من العذاب.
ويسن أن يكثر من قول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: خيرُ الدعاء دُعاءُ يوم عرفة، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي عشية عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أحب الكلام إلى الله أربع : سُبحان الله، والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
فينبغي الإكثار من هذا الذكر وتكراره بخشوع وحضور قلب ، وينبغي الإكثار أيضا من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت ؛ ولا سيما في هذا الموضع ، وفي هذا اليوم العظيم، ويختار جوامع الذكر والدعاء.
ويستحب أن يلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا كرر الدعاء ثلاثا، فينبغي التأسي به عليه الصلاة والسلام في ذلك.
ويكون المسلم في هذا الموقف مخبتا لربه سبحانه متواضعا له خاضعا لجنابه منكسرا بين يديه يرجو رحمته ومغفرته ، ويخاف عذابه ومقته، ويحاسب نفسه ، ويجدد توبة نصوحا، هذا يوم عظيم، ومجمع كبير ، يجود الله فيه على عباده ، ويباهي بهم ملائكته، ويكثر فيه العتق من النار، وما رُؤيَ الشيطان في يوم هو فيه أدحر ولا أصغر ولا أحقر منه في يوم عرفة إلا ما رؤي يوم بدر وذلك لما يرى من جُود الله على عباده وإحسانه إليهم وكثرة إعتاقه ومغفرته.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنَّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ .
فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيرا ، وأن يهينوا عدوهم الشيطان ، ويحزنوه بكثرة الذكر والدعاء ، وملازمة التوبة والاستغفار من جميع الذنوب والخطايا، ولا يزال الحجاج في هذا الموقف مشتغلين بالذكر والدعاء والتضرع إلى أن تغرب الشمس .